كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



البحث الأول: في الرمي وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
ألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية وتعريض، فالصريح أن يقول يا زانية أو زنيت أو زنى قبلك أو دبرك، ولو قال زنى بدنك فيه وجهان: أحدها: أنه كناية كقوله: زنى يدك، لأن حقيقة الزنا من الفرج فلا يكون من سائر البدن إلا المعونة والثاني: وهو الأصح أنه صريح، لأن الفعل إنما يصدر من جملة البدن.
والفرج آلة في الفعل.
أما الكنايات فمثل أن يقول يا فاسقة، يا فاجرة، يا خبيثة، يا مؤاجرة، يا ابنة الحرام، أو امرأتي لا ترد يد لامس، وبالعكس فهذا لا يكون قذفًا إلا أن يريده، وكذلك لو قال لعربي يا نبطي، فهذا لا يكون قذفًا إلا أن يريده، فإن أراد به القذف فهو قذف لأم المقول له وإلا فلا، فإن قال عنيت به نبطي الدار واللسان، وادعت أم المقول له أنه أراد القذف، فالقول قوله مع يمينه.
أما التعريض فليس بقذف وإن أراده، وذلك مثل قوله: يا ابن الحلال، أما أنا فما زنيت وليست أمي زانية، وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح رحمهم الله.
وقال مالك رحمه الله: يجب الحد فيه، وقال أحمد وإسحق: هو قذف في حال الغضب دون حال الرضا، لنا، أن التعريض بالقذف محتمل للقذف ولغيره، فوجب أن لا يجب الحد، لأن الأصل براءة الذمة فلا يرجع عنه بالشك، وأيضًا فلقوله عليه السلام: «أدرأوا الحدود بالشبهات» ولأن الحدود شرعت على خلاق النص النافي للضرر.
والإيذاء الحاصل بالتصريح فوق الحاصل بالتعريض، واحتج المخالف بما روى الأوزاعي عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: كان عمر يضرب الحد في التعريض.
وروي أيضًا أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال أحدهما للآخر: والله ما أنا بزان ولا أمي بزانية، فاستشار عمر الناس في ذلك، فقال قائل: مدح أباه وأمه، وقال آخرون: قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا، فجلده عمر ثمانين جلدة والجواب: أن في مشاورة عمر الصحابة في حكم التعريض دلالة على أنه لم يكن عندهم فيه توقيف، وأنهم قالوا رأيًا واجتهادًا.
المسألة الثانية:
في تعدد القذف اعلم أنه إما أن يقذف شخصًا واحدًا مرارًا أو يقذف جماعة، فإن قذف واحدًا مرارًا نظر إن كان أراد بالكل زنية واحدة بأن قال: زنيت بعمرو قاله مرارًا لا يجب إلا حد واحد، ولو أنشأ الثاني بعدما حد للأول عزر للثاني، وإن قذفها بزنيات مختلفة بأن قال زنيت بزيد، ثم قال زنيت بعمرو، فهل يتعدد الحد أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: يتعدد اعتبارًا باللفظ ولأنه من حقوق العباد فلا يقع فيه التداخل كالديون والثاني: وهو الأصح يتداخل فلا يجب فيه إلا حد واحد لأنهما حدان من جنس واحد لمستحق واحد فوجب أن يتداخل كحدود الزنا، ولو قذف زوجته مرارًا، فالأصح أنه يكتفي بلعان واحد سواء قلنا يتعدد الحد أو لا يتعدد.
أما إذا قذف جماعة معدودين نظر، إن قذف كل واحد بكلمة يجب عليه لكل واحد حد كامل، وعند أبي حنيفة رحمه الله: لا يجب عليه إلا حد واحد.
واحتج أبو بكر الرازي على قول أبي حنيفة بالقرآن والسنة والقياس.
أما القرآن فهو قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} والمعنى أن كل أحد يرمي المحصنات وجب عليه الجلد، وذلك يقتضي أن قاذف جماعة من المحصنات لا يجلد أكثر من ثمانين فمن أوجب على قاذف جماعة المحصنات أكثر من حد واحد فقد خالف الآية.
وأما السنة: فما روى عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي عليه السلام: «لا، البينة أو حد في ظهرك» فلم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم على هلال إلا حدًا واحدًا مع قذفه لإمرأته ولشريك بن سحماء، إلى أن نزلت آية اللعان فأقيم اللعان في الزوجات مقام الحد في الأجنبيات.
وأما القياس: فهو أن سائر ما يوجب الحد إذا وجد منه مرارًا لم يجب إلا حد واحد كمن زنى مرارًا أو شرب مرارًا أو سرق مرارًا فكذا ههنا، والمعنى الجامع دفع مزيد الضرر والجواب: عن الأول أن قوله: {والذين} صيغة جمع، وقوله: {المحصنات} صيغة جمع، والجمع إذا قوبل بالجمع يقابل الفرد بالفرد فيصير المعنى كل من رمى محصنًا واحدًا وجب عليه الجد، وعند ذلك يظهر وجه تمسك الشافعي رحمه الله بالآية، ولأن قوله: {والذين يَرْمُونَ المحصنات فاجلدوهم} يدل على ترتيب الجلد على رمي المحصنات وترتيب الحكم على الوصف، لاسيما إذا كان مناسبًا فإنه مشعر بالعلية، فدلت الآية على أن رمي المحصن من حيث إنه هذا المسمى يوجب الجلد إذا ثبت هذا فنقول: إذا قذف واحدًا صار ذلك القذف موجبًا للحد، فإذا قذف الثاني وجب أن يكون القذف الثاني موجبًا للحد أيضًا، ثم موجب القذف الثاني لا يجوز أن يكون هو الحد الأول لأن ذلك قد وجب بالقذف الأول وإيجاب الواجب محال، فوجب أن يحد بالقذف الثاني حدًا ثانيًا، أقصى ما في الباب أن يورد على هذه الدلالة حدود الزنا.
لكنا نقول ترك العمل هناك بهذا الدليل لأن حد الزنا أغلظ من حد القذف، وعند ظهور الفارق يتعذر الجمع.
وأما السنة فلا دلالة فيها على هذه المسألة لأن قذفهما بلفظ واحد، ولنا في هذه المسألة تفصيل سيأتي إن شاء.
وأما القياس ففاسد لأن حد القذف حق الآدمي.
بدليل أنه لا يحد إلا بمطالبة المقذوف وحقوق الآدمي لا تتداخل بخلاف حد الزنا، فإنه حق الله تعالى.
هذا كله إذا قذف جماعة كل واحد منهم بكلمة على حدة.
أما إذا قذفهم بكلمة واحدة فقال أنتم زناة أو زنيتم، ففيه قولان أصحهما وهو قوله في الجديد: يجب لكل واحد حد كامل لأنه من حقوق العباد فلا يتداخل، ولأنه أدخل على كل واحد منهم معرة فصار كما لو قذفهم بكلمات.
وفي القديم لا يجب للكل إلا حد واحد اعتبارًا باللفظ، فإن اللفظ واحد والأول أصح لأنه أوفق لمفهوم الآية.
فعلى هذا لو قال لرجل يا ابن الزانيين يكون قذفًا لأبويه بكلمة واحدة فعليه حدان.
المسألة الثالثة:
فيما يبيح القذف: القذف ينقسم إلى محظور ومباح وواجب، وجملة الكلام أنه إذا لم يكن ثم ولد يريد نفيه فلا يجب، وهل يباح أم لا ينظر إن رآها بعينه تزني أو أقرت هي على نفسها ووقع في قلبه صدقها أو سمع ممن يثق بقوله أو لم يسمع، لكنه استفاض فيما بين الناس أن فلانًا يزني بفلانة، وقد رآه الزوج يخرج من بيتها أو رآه معها في بيت، فإنه يباح له القذف لتأكد التهمة، ويجوز أن يمسكها ويستر عليها.
لما روي أن رجلًا قال يا رسول الله إن لي امرأة لا ترد يد لامس، قال: «طلقها» قال إني أحبها، قال: «فأمسكها» أما إذا سمعه ممن لا يوثق بقوله أو استفاض من بين الناس ولكن الزوج لم يره معها أو بالعكس لم يحل له قذفها، لأنه قد يذكره من لا يكون ثقة فينتشر ويدخل بيتها خوفًا من قاصد أو لسرقة أو لطلب فجور فتأبى المرأة قال الله تعالى: {إِنَّ الذين جَاءوا بالإفك عُصْبَةٌ مّنْكُمْ} [النور: 11] أما إذا كان ثم ولد يريد نفيه، نظر فإن تيقن أنه ليس منه بأن لم يكن وطئها الزوج أو وطئها لكنها أتت به لأقل من ستة أشهر من وقت الوطء أو لأكثر من أربع سنين يجب عليه نفيه باللعان لأنه ممنوع من استلحاق نسب الغير كما هو ممنوع من نفي نسبه، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولم يدخلها الله جنته» فلما حرم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم كان الرجل أيضًا كذلك، أما إن احتمل أن يكون منه بأن أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الوطء ولدون أربع سنين، نظر إن لم يكن قد استبرأها بحيضة، أو استبرأها وأتت به لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء، لا يحل له القذف والنفي وإن اتهمها بالزنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه يوم القيامة وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين» فإن استبرأها وأتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الاستبراء يباح له القذف والنفي.
والأولى أن لا يفعل لأنها قد ترى الدم على الحبل وإن أتت امرأته بولد لا يشبهه بأن كانا أبيضين فأتت به أسود، نظر إن لم يكن يتهمها بالزنا فليس له نفيه، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، فقال: «هل لك من إبل؟» قال نعم، قال: «ما ألوانها؟» قال حمر، قال: «فهل فيها أورق؟» قال نعم، قال: «فكيف ذاك؟» قال نزعه عرق قال «فلعل هذا نزعه عرق» وإن كان يتهمها بزنا أو يتهمها برجل فأتت بولد يشبهه هل يباح له نفيه فيه وجهان:
أحدهما: لا لأن العرق ينزع والثاني: له ذلك لأن التهمة قد تأكدت بالشبهة.
البحث الثاني: في الرامي وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
إذا قذف الصبي أو المجنون امرأته أو أجنبيًا فلا حد عليهما ولا لعان، لا في الحال ولا بعد البلوغ، لقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع القلم عن ثلاث» ولكن يعزران للتأديب إن كان لهما تمييز، فلو لم تتفق إقامة التعزير على الصبي حتى بلغ، قال القفال يسقط التعزير لأنه كان للزجر عن إساءة الأدب وقد حدث زاجر أقوى وهو البلوغ.
المسألة الثانية:
الأخرس إذا كانت له إشارة مفهومة أو كتابة معلومة وقذف بالإشارة أو بالكناية لزمه الحد، وكذلك يصح لعانه بالإشارة والكناية، وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه، وقول الشافعي رحمه الله أقرب إلى ظاهر الآية لأن من كتب أو أشار إلى القذف فقد رمى المحصنة وألحق العار بها فوجب اندراجه تحت الظاهر، ولأنا نقيس قذفه ولعانه على سائر الأحكام.
المسألة الثالثة:
اختلفوا فيما إذا قذف العبد حرًا فقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر وعثمان القن عليه أربعون جلدة، روى الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليًا عليه السلام قال: يجلد العبد في القذف أربعين وعن عبد الله بن عمر أنه قال: أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء وكلهم يضربون المملوك في القذف أربعين وقال الأوزاعي يجلد ثمانين وهو مروي عن ابن مسعود، وروي أنه جلد عمر بن عبد العزيز العبد في الفرية ثمانين.
ومدار المسألة على حرف واحد وهو أن هذه الآية صريحة في إيجاب الثمانين فمن رد هذا الحد إلى أربعين فطريقه أن الله تعالى قال: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] فنص على أن حد الأمة في الزنا نصف حد الحرة، ثم قاسوا العبد على الأمة في تنصيف حد الزنا، ثم قاسوا تنصيف حد قذف العبد على تنصيف حد الزنا في حقه، فرجع حاصل الأمر إلى تخصيص عموم الكتاب بهذا القياس.
المسألة الرابعة:
اتفقوا على دخول الكافر تحت عموم قوله: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} لأن الاسم يتناوله ولا مانع، فاليهودي إذا قذف المسلم يجلد ثمانين، والله أعلم.
البحث الثالث: في المرمى وهي المحصنة، قال أبو مسلم: اسم الإحصان يقع على المتزوجة وعلى العفيفة وإن لم تتزوج، لقوله تعالى في مريم: {والتى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91] وهو مأخوذ من منع الفرج فإذا تزوجت منعته إلا من زوجها، وغير المتزوجة تمنعه كل أحد، ويتفرع عليه مسائل:
المسألة الأولى:
ظاهر الآية يتناول جميع العفائف سواء كانت مسلمة أو كافرة وسواء كانت حرة أو رقيقة، إلا أن الفقهاء قالوا: شرائط الإحصان خمسة الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنا، وإنما اعتبرنا الإسلام لقوله عليه السلام: «من أشرك بالله فليس بمحصن» وإنما اعتبرنا العقل والبلوغ لقوله عليه السلام: «رفع القلم عن ثلاث» وإنما اعتبرنا الحرية لأن العبد ناقص الدرجة فلا يعظم عليه التعيير بالزنا، وإنما اعتبرنا العفة عن الزنا لأن الحد مشروع لتكذيب القاذف، فإذا كان المقذوف زانيًا فالقاذف صادق في القذف.